فن

«رحلة 404»: أورفيوس في بطولة مؤنثة

في الأساطير الإغريقية، يهبط أورفيوس للعالم السفلي لللتفاوض على استعادة حبيبته، أما في «رحلة 404» فإن «غادة» تعود لعالمها السفلي أيضا ولكن لأسباب أخرى.

future فيلم «رحلة 404»

في واحدة من أكثر مآسي الميثولوجيا الإغريقية شعرية، نجد «أورفيوس»، الموسيقار الأسطوري، يُتوج حبه أخيرًا لمعشوقته «يوريديس» بالزواج، لكن كعادة المآسي الإغريقية يتدخل القدر بلمسة تراجيدية، فتموت «يوريديس» بلدغات الثعابين السامة.

يكمن جوهر المأساة الاغريقية في بطل يتحدى أقداره، ويرفض التسليم، مثل «بروميثيوس» الذي يعصي الآلهة ويُسرب سر النار للبشر، أو «سيزيف» الذي يخدع إله الموت و«إيكاروس» الذي يُطاول بأجنحته الشمس.

 يموضع «أورفيوس» نفسه في سلسال هؤلاء الأبطال عندما يتحدى أقداره، ويُقرر الهبوط بألحان قيثارته إلى عالم الموتى، تسحر ألحانه حُراس الجحيم فيسمحوا له بالمرور حتى يصل إلى آلهة العالم السفلي. ترق قلوب الآلهة لحاله ويعقدون معه صفقة. سيعود لعالم الأحياء وستأتي «يوريديس» في أثره، عليه فقط خلال رحلة عودته ألا يلتفت للوراء أبدًا، عليه أن يؤمن بوعود الآلهة.

يعود «أورفيوس» ببطء لعالم الأحياء، لا يُصارع في عودته الحراس أو كلاب الجحيم، إنما يُصارع قلبه وإيمانه، يخذله يقينه ويلتفت قبل الوصول بإنش ليتأكد أن حبيبته خلفه، لتسقط «يوريديس» في عالم الموتى مرة أخرى، وينغلق باب العالم السفلي في وجهه للأبد تلك المرة.

يقول «جوزيف كامبل» أن كل بطل في أسطورته عليه أن يهبط للعالم السُفلي، أبعد نقطة عن عالم الأحياء، وعليه أن يُقاتل للعودة، ما يجعل قصة «أورفيوس» مُختلفة، أنه يمتلك كل مقومات أبطال الأساطير، لكنه لم يشق طريقه بالقتال أو التمرد إنما بالمفاوضة، وعقد صفقة، وبينما في الصفقات الفاوستية يبيع البطل بدافع اليأس روحه مقابل ما يشتهي، لا تشترط مفاوضة «أورفيوس» ذلك، عليه فقط أن يضع ثقته بالأقدار تحت الاختبار وهو الشرط الأكثر صعوبة. لإن الإيمان هو أساس الصفقة لا اليأس.

تمتلك قصة «أورفيوس» بعد عام ملحمي، وهو عقاب العالم الإغريقي الصارم  للبشر كعناصر فوضى فردية، تُفسد نظام العالم باشتهاءاتها وظنها الدائم أنها فوق القوانين لذلك هم دومًا أمثلة عقابية في كل الأساطير، لايزال «سيزيف» يدفع صخرته بعبث عقابًا له ولا يزال النسر ينهش كبد «بروميثيوس» في دورة أبدية لن تنتهي.

ولكن قصة «أورفيوس» تمتلك كذلك بعدا خاصا وشخصي يُميزها عن هؤلاء الأبطال، وهو أن البطل كان يعرف ما يُريده ونال مُباركة الآلهة لكنه لم يمتلك غريزة الثقة في العالم والألوهة بأنها ستُحقق ما يتمناه.

يمكن أن نجد في السينما المصرية تنويعات شتى عن حبكة «أورفيوس» أو الهبوط للعالم السفلي للمٌفاوضة، أبرزها في عام 1994 حين قدم عاطف الطيب فيلمه «كشف المستور»، والذي يدور حول «سلوى شاهين» التي تمتلك ماضيًا شائكًا كعاهرة توظفها الأجهزة الأمنية لاستهداف شخصيات بعينها، تتلقى «سلوى» نداءًا إجباريًا للعودة لماضيها الذي تحررت منه أخيرًا، وتخوض خلال 24 ساعة رحلة إلى العالم السُفلي الذي غادرته بحثًا عن خلاصها.

وأحدث التنويعات يقدمها المخرج «هاني خليفة» بفيلمه «رحلة 404» والذي يدور حول «غادة» التي تمتلك ماضيًا مُشينًا كعاهرة، تحررت منه أخيرًا، وقررت تتويج انسلاخها الكامل عن عالم الخطيئة برحلة حج، ولكن تتعرض والدتها لحادث سيارة وهي تُحاول حصار ابنتها طلبًا للمال، لذا تضطر غادة إلى العودة للعالم السفلي بإرادتها للمفاوضة لأجل تدبير الأموال الكافية لانقاذ أمها ورحلة توبتها.

يُقدم «كشف المستور» قصة أورفيوس في بُعدها العام كأقصوصة تُعبر ببساطتها عن واقع عالمها، «سلوى شاهين» تُمثل إنعكاس شخصي لنظام وعالم سياسي كامل يُبرر غاياته بوسائل مشبوهة، وبينما عُهرها الشخصي مُدان بشكل حاسم، فالعُهر المُجتمعي والسياسي ينال حُراسه التكريم والإشادة البطولية، لذلك كان لابد أن تكون «سلوى» قصة تحذيرية وعقابية لكل من يُحاول أن يفسد آلية ذلك التناقض ويكشفه.

بينما يقدم «رحلة 404» قصة «أورفيوس» في بُعدها الشخصي، لا تُثقل القصة نفسها باسقاطات أكبر مما تحتمل قد تبتلع بطلتها، لا ترمز «غادة» لمشهد عام أكبر منها فالرحلة شديدة الذاتية، يطغى فيها حضور البطلة على المشاهد كلها تقريبًا، لا يترك هاني خليفة الكاميرا لتتجول بعيدًا عنها أو لتؤطرها في كادر رمزي أكبر من بساطة حكايتها، كل أدوات السرد وفية لشخصيتها وكل الكادرات هي في قلبها.

ما يُثير الاهتمام في الحكايتان أن «أورفيوس» في الأفلام المصرية كان حضوره أنثوي، ربما لكون العالم السفلي في الحكايتان ليس عالم الأموات إنما عالم الخطيئة، والخطيئة مؤنثة دومًا، يصعب أن يؤسر الرجل هنا لعار خطيئة بعينها، والأكثر أهمية أن المفاوضة والمراوغة وعقد الصفقات هي -بحسب منطق الأعراف والأساطير- أساليب حيلة لا تُناسب عالم الذكورة الصارم الذي يُفكر دومًا بالمواجهة والتحدي، إنما تناسب الأنثى أكثر.

في الأسطورة كان «أورفيوس» بطل ذكر انقاذي يُحاول استعادة حبيبته من عالم الأموات، وفي تلك الحكايات البطلة أنثى وحيدة لا أحد قادم لانقاذها لأنها مُدنسة بالأساس بولوجها هذا العالم السفلي، تُحاول البطلة استعادة ذاتها من عالم الخطيئة الذي يُهندسه الرجال ولا يدخلوه أبدًا.

ما يجعل «رحلة 404» أكثر مُلاءمة لأسطورة «أورفيوس» هو تأطيره للعنصر الإيماني الذي مثل اختبار أورفيوس كاملًا، في «كشف المستور» آمنت «سلوى شاهين» بأن النظام يمتلك آليات للمراجعة ونفوذ يُمكن اللعب على أوتاره لتنقذ نفسها، ولكن في رحلة 404 تؤمن غادة بالألوهة المحضة كوسيلة لخلاصها الفردي، وبالحج كشعيرة دينية مُباشرة يحاول المرء عبرها البحث عن ميلاد جديد.

يمتلك «رحلة 404» كل المقومات السهلة والمباشرة ليتحول إلى حكاية وعظية مُملة، ولكن نجح صناعه في الوفاء للسينما كوسيط ثري مُعبر عن الحكاية، وسيط نجح في تقديم «غادة» كمثال إنساني قلق على هواجس الذنب والخلاص، وليس مثال أخلاقي أجوف عن سماحة العالم مع التوبة.

الماضي كأحُجية مُتمهلة ولعبة ألوان

يقدم السرد «غادة» منذ البداية كشخصية أكثر تعقيدًا من توبتها، ترتدي حجابًا شديد العصرية يخلو من المٌبالغة في التأكيد على إيمانات صاحبته، يدل على أناقة سابقة وأنثى تُدرك جيدًا كيف تُبرز جمالها في أي كود ثياب، تعمل في شركة عقارات بمهنة تحتاج كل مهاراتها السابقة في التفاوض والإقناع وتجميل السلعة وبيعها، لذلك لا نستغرب عندما نعرف أنها حصلت على تلك الوظيفة من «شهيرة» صديقتها من الماضي القديم. تقتطع وقتًا من عملها وعالمها البشري الصاخب للصلاة، لكن نراها بعد ذلك منومة في خشوع أكثر أصالة تحت وطأة مقطوعة موسيقية مغوية يُرسلها صديق من عالمها القديم.

تمثل غادة شخصية مشدودة للأبيض والنقاء لكنها تمتلك أواصر لم تنقطع بعد مع اللون الأسود وهو ما يجعلها رُمادية بالكامل، وبالتالي أكثر ضعفًا وهشاشة عندما تُقابل اختبارها.

يوظف هاني خليفة كل خبراته الإخراجية في خلق مجازات بصرية لتلك الحالة الوجدانية، سوف يتأرجح الفيلم حتى نهايته بين مشاهد نهارية يطغى عليها اللون الأبيض، تُمثل كل محاولات غادة الشرعية لجمع المال اللازم لأمها ورحلتها، ومشاهد ليلية يطغى عليها الأحمر والأسود تُمثل اشتباك غادة مع عوالم الخطيئة التي تجذبها للعودة.

بجانب المجازات البصرية، اتفق صناع العمل على تجنب «الفلاش باك» باعتباره التكنيك الأكثر استسهالًا لنستعيد مع «غادة» ماضيها، يوظف «هاني خليفة» أسلوبه المُفضل من أفلام سابقة مثل «سهر الليالي»، وهو الاعتماد المُكثف على المواجهة والإنفجار الحواري، فيتحول الفيلم وبطلته إلى أحُجية، نظن أننا نفهمها لكن في كل بطل تواجهه «غادة» من ماضيها، يمنحنا الحوار بذكاء جانبًا من تعقيد تاريخها وشخصيتها. يتركنا صناع العمل لنجمع قطع البازل تدريجيًا لنخلق صورتنا من ماضي الشخصية ومعها حكمنا الأخلاقي عليها بالتعاطف أو الإدانة.

الكبرياء، خطيئة أورفيوس الحقيقية

كان أورفيوس في الحقيقة جبانًا، قرر خوض الجحيم بدلًا من تقبل الموت.
أفلاطون

لا تكمن خطيئة «أورفيوس» فقط في غريزة عدم الثقة بالعالم أو ضعف إيمانه بوعود الآلهة، إنما بكبريائه الذكوري الذي يغفل عن هشاشته، وثقته اللامُتناهية في موهبته وقدرة قيثارته على التحكم بنغماتها في الجحيم ذاته، ومن ثم القدر لينصاع لرغبته ويستعيد حبيبته. لذلك تُحطم المآسي الإغريقية رجالها بلا رحمة وتجعلهم عبرة لتواضع البشري أمام نظام الألوهة.

نُدرك منذ البداية خطيئة «غادة» كعاهرة، لكن في كل الرجال الذين تُقابلهم نجد خطيئة «أورفيوس» مٌكررة باصرار وهي الكبرياء الذي يُخفي هشاشة لا يعيها صاحبها.

تكشف «غادة» في لقائها مع حبيبها الأول كيف وجدت طريقها لعالم العاهرات من الأساس، عندما وضعت ثقتها فيه وسلمته جسدها، لكنه أبى بكبريائه أن يتزوج امرأة ضاجعها لذلك يختار زوجة تُناسب تصور المُجتمع حول الفتاة المثالية. في لقائه بها يُبالغ في إظهار مكانته المادية وتماسك عالمه الجديد.

تنسى «غادة» الهدف الذي جاءت لأجله وهو استجداء الأموال وتوجه رصاصتها بخفة إلى هشاشته، تجعله واعيًا بسمنته التي لا تُناسب صورته الرومانسية القديمة، وبكونه لم يختار امرأة أكثر أخلاقية إنما أكثر ثراءًا، وما هو إلا طُفيلي صنع مكانته بأموال والدها.

تٌقابل غادة أحد زبائنها القُدامى «ياسر» والذي يُبالغ في إبراز مكانته المادية وقُدرته على مساعدتها، لكن سرعان ما تكتشف غادة أنها أمام رجل مُفلس ومُحطم بالكامل، كبرياء مُمزق بخيانة زوجته له وتعلق إبنه بعشيق زوجته.

يكفي حضور «غادة» لتأطير هشاشة الرجل، فوجودها كعاهرة من ماضيه السابق يؤكد أنه لم يكن وفيًا لزوجته هو الآخر، لكن خيانته لا توازي لديه خيانة زوجته ولا تُذكر، لأن خيانة المرأة للرجل هي اغتيال لكبرياء لن يُستعاد أبدًا.

في مٌقابلتها الأخيرة لأهم شبح من ماضيها، «طارق»، يعقد الأخير مٌحاكمة أخلاقية عنيفة لماضيها وتوبتها المزعومة التي تقع تحت المساءلة نتيجة علاقاتها برفاق الماضي، نٌدرك أن «طارق» ما هو إلا زوجها السابق، ولا يحمل كبريائه مُحاكمة رجل لزوجة لها ماضي.

لم يتزوج «طارق» امرأة تصادف أنها عاهرة إنما اختارها لكونها كذلك، وجد فيها خلاص نرجسي من عقدته الأوديبية الهشة كشاهد أساسي على خيانات أمه لأبيه، لذلك أراد أن يتزوج بعاهرة ليُخبر أمه كيف شعر والده طوال زواجه؟

لا تكشف تلك المواجهات المُتتالية ماضي «غادة» بتدريج ذكي وحسب، إنما تٌخبرنا لماذا هي الشخصية الأكثر شجاعة في التوبة والتطهر من ماضيها من كل من قابلتهم؟

 يُمثل رجال عالمها قشور مُحطمة تتدثر بكبرياء كاذب يُخفي هشاشتها، الأول استعملها كمادة لتجربة رجولته وشهوة المرة الأولى والثاني استخدمها كأداة للمُتعة خارج زواجه المٌضطرب والثالث استخدمها كأداة عقابية لعقدة شخصية، كانت مفعول به في الحكايات الثلاث لكن الأكثر أهمية أنها تذكار هشاشة يُخبر كل من يقتنيه ولو بالذكرى أنه مٌحطم، وأنه رهين ماضيه ومقيد له أكثر من «غادة» نفسها التي لا تختبيء خلف كبرياء كاذب إنما تأتي بذل التوبة طلبًا للخلاص من قيود هذا الماضي. لذا تتحول غادة إلى فاعل بينما يتحول الرجال إلى مفعول به أسرى لهشاشتهم التي لم يواجهوها أبدًا مثلها. لهذا يظهر الرجال في حملة الفيلم الدعائية وهم يحملوا أقنعتهم بينما يحتل وجه البطلة المكشوف الكادر كاملًا.

تُجيد البطلة رغم شعورها بالخزي أن ترى نفسها في ضباب ماضيها، تُجيد تسمية تاريخها بعناية، لا تختبيء وراء مُسميات مُراوغة أو كبرياء كاذب، تُخبر حبيبها الأول أنها سلمته جسدها لأنها أحبته، وتُخبر زبونها القديم أنها لن تستلم عقد شقته أو ملكيته الأخيرة وتستخدمه كمفعول به لحل أزمتها كما فعل هو في الماضي، وتُخبر زوجها السابق أنها أجهضت طفلها لأنه هو ذاته طفل لم يكبر أبدًا ولم يبرأ من جرح أمه إلا بقتلها، لذلك لا يُمكن أن يكون أبًا أبدًا.

وبينما يُدينها أبيها في كل خطواتها بكبرياء كاذب لكونها تحمل طباع أمها القذرة في نظره، نٌدرك ببساطة أنه امتداد لكل رجال الحكاية، كبرياء هش خضع في الماضي لزوجة مُتسلطة وعندما تحرر منها اختار زوجة جديدة أكثر تسلطًا.

تلعب غادة دور «أورفيوس» في حكايتها لكن «أورفيوس» مُبرأ من كبرياءه الذكوري ونزوعه للتحكم في القدر، إنما مُستسلم تمامًا للألوهة كإنقاذ أخير من خطيئته، ولكن لا يعفيها ذلك من الاختبار الأساسي في الأسطورة، وهو لأي مدى تثق في تلك الألوهة؟

الخطأ 404

في أسطورة «أورفيوس» لا تحضر سُلطة الألوهة في مُعظم مشاهد الحكاية، لأننا نرى دومًا «أورفيوس» وهو يكدح للصعود لعالم الأحياء، نُدرك من نظراته القلقة والمُختلسة لكتفه أنه يتوق للنظر للوراء، ينظر للأمام أحيانًا كأنه يُناجي الآلهة، وينظر للخلف كثيرًا كأنه يُناجي شيطانه.

في كثير من مشاهد الرحلة 404، تحتل غادة الكادر وحيدة، تنظر للأمام مُباشرة أو على جانبي كتفيها، لثوان معدودة قبل أن تنخرط في محادثة مع من يحتل معها اللقطة، بجوار حوارات الفيلم المُتعددة توجد مُحاورة خفية وحاضرة دومًا بين غادة والطرف الأكثر حسمًا في حكايتها، الألوهة ذاتها وملاكها وشيطانها الرابضان على كتفيها.

كان من المُقرر عرض الفيلم في مهرجان البحر الأحمر 2022 لكن تم سحبه بسبب اعتراضات الرقابة على الحكاية وتحديدًا العنوان «القاهرة مكة» الذي يحمل مُجاورة مُكثفة بين الخطيئة والخلاص. رغم بلاغة العنوان نجح صناع العمل في استبداله بعنوان ذكي وهو رحلة 404.

يمثل error 404 الخطأ الشهير  في بروتوكول الحاسوب الذي يُخبرك أن عنوان الوجهة التي تود الوصول إليها غير موجود، يحمل العنوان شكًا ذكيًا في أن رغبة «غادة» في الخلاص ليست ببساطة أداء شعيرة دينية إنما في إيمانها أن الألوهة التي تتوجه لها بالتوبة والرجاء موجودة بالأساس وتقبلت توبتها

في إحدى المشاهد، يُخبرها أبيها أن ثواب الحج مقرون بالنية، لذلك يُمكنها أن تحل أزمتها بأموال السفر، يُعد مأزق الأموال برمته في الحكاية هو الأكثر ضعفًا في حلقة السيناريو، ويُمكن تجاوزه بحلول كثيرة، أو بإلغاء مشروع الحج بأكمله، لكن لا تكمن العقدة الأساسية للحكاية في توفير الأموال إنما في غريزة الثقة لدى غادة أن توبتها ستصمد أمام الاختبارات. أو بتعبير كافكا:

حتى لو لم يوجد الخلاص أريد في كل لحظة أن أكون جديرًا به.

تحضر الألوهة بفتنة قاسية عندما تضع أمام البطلة ذهب لا يخصها في أشد أوقاتها احتياجًا، ثم تحضر الألوهة برحمة حنون عندما نرى الذهب لأول مرة في حقيبتها ونُدرك أن البطلة خانت توبتها وسرقت الذهب.

 تحضر الرحمة في صورة حافلة اضاءتها بيضاء ناصعة تظهر وسط الصحراء، وسط كادر مُظلم بالكامل لانقاذها، لذلك تتوجه بعدها مُسرعة لإعادة الذهب لصاحبته لأنها أيقنت أن الرب لم ييأس منها بعد ومنحها نجدته. ما يمنح تلك المحاورة مع الألوهة ثقلها السينمائي أنها صامتة بالكامل تعتمد على أداء البطلة ونظراتها تحديدًا دون فخ الوقوع في المونولوج الصريح.

لا تظهر توبة البطلة في لغة مُثقلة بالوعظية أو في صلوات ودعوات لاهثة إنما ما تُخفيه توبتها تحديدًا هو توق شديد للحُرية والانعتاق من لحظة الخطيئة الأولى مع حبيبها التي اقترنت في وجدانها بالحُب والحرية من منظورها الأكثر سذاجة وتحولت بعدها بدقائق صادمة إلى عاهرة، لتسقط في قيود هذا العالم حتى النخاع بفعل القصور الذاتي، وصدمتها في هشاشة مفاهيمها عن العالم، لذلك تمثل توبتها محاولة لوصال هذا الشعور بالحرية من جديد على أكتاف تجربة أكثر نضجًا، لذلك عندما تشعر بقرب نهاية مأزقها تقفز بثيابها إلى البحر الذي يُمثل انعتاق وحُرية حتى من ثيابها الثقيلة.

لم تلتفت غادة في حكايتها مرة واحدة، لتنال عقاب «أورفيوس»، انما خلال اختبارها التفتت مرات شتى، حاولت الخروج من مأزقها بتدبير عملية نصب تارة وبسرقة ذهب تارة، وأخيرًا بالاستسلام لعرض صديقتها القديمة بالتورط في حفل جنسي مثل حفلاتها السابقة في مقابل المال الكافي لحل مأزقها.

أورفيوس ينال الغفران

يُمكنني أن أغفر لك يا أورفيوس، لا توجد روح واحدة لم تكن لتنظر للخلف.
تايلر كينج

لا يمثل رحلة 404 تجسيد قصة كلاسيكية أو كليشيهية عن الصمود الايماني في مواجهة الغواية، والتي تظهر فيها الألوهة كاستبداد اغريقي يُهندس بسادية اختباره ليسقط صاحبه وإن نجح في ألف مُحاولة سابقة، يظهر الخلاص كرحلة أعقد من عالم مٌنقسم بين جزء علوي وسُفلي أو تذكرة سفر إلى مكة، إنما مُحاورة تسري في اتجاهين مثل بندول، تتأرجح بين الذنب والتوبة. رحلة قلقة لا ترتبط بوجهة مثل مكة، حيث يُمكن أن نجد للشيطان نٌصب مادي تستهدفه الجمرات، يمثل الحج تكثيف رمزي حنون لعالم أكثر تعقيدًا رمزياته مضفورة بعناية مع مغوياته وهو ما يجعل الاختبار الإنساني أكثر صعوبة من حصره في التفاتة واحدة للخلف.

تنجح غادة في الخروج من مأزقها أخيرًا على يد أشباح ماضيها، ليس بخضوعها لأدوارها القديمة في عيونهم ولا بحضورها كتذكار لهشاشة رجال حكايتها، إنما بحضورها في عيونهم كإمكانية للخلاص، كرسول رقيق من عالم الهشاشة لرجال مكثوا طويلًا في ظلال كبرياء كاذب، ولذلك ينتهي الفيلم بكادر أخير تخرج فيه البطلة من الظلمة التي تحُيطها لنور مٌفترض، لتمنح المشاهدين الوعد ذاته.

تمثل البطلة هنا تنويع أكثر رقة عن أورفيوس، تنويع عن الذنب والخلاص واختباراته، لا باعتبارها حبكات تحتاج بطل يظن قدرته على التحكم في أقداره، بينما يخفي بداخله هشاشة لا تثق في أي مفاوضة مع هذا العالم، إنما باعتبارها ضفيرة لا يُجدي معها إلا الاعتراف بهشاشتنا وأننا سنلتفت كثيرًا للخلف في حكايتنا، ولكن الطريق للنور رهين قبول الرحلة هنا والآن لا انتظار تذكرة مثالية لعالم بلا خطيئة.

# سينما مصرية # أفلام

ثنائية «Smile»: كيف يصنع فرويد فخًا سينمائيًا؟
فيلم «Punch-Drunk Love»: عندما يقع الرجل العادي في الحب
فيلم «Poor Things»: عن كائنات مسكينة وامرأة قوية

فن